مصر دولة
صاحبة ركائز أقتصادية قوية تتمثل في عدد الأيدي العاملة الكبير ، نهر النيل ،
موقعها الأستراتيجي ، بحريها الأحمر والمتوسط ، قناة السويس ، هذا بالاضافة الى
الثروات المعدنية والحيوانية والزراعية . وكل هذا غير مستغل أو يتم أهداره .
لقد مرت بمصر عصور شهدت
فيها أزمات أقتصادية طاحنة وقاتله كادت الواحدة منها كفيلة بأن لا تقوم حياة على
مصر مرة أخري ، و لكن يأبي الله في كل مره الا أن يخرج مصر من كل أزمة على يد
الصالحين المصلحين ، وهذه من أسمي النعم على هذه البلد ، ان الله يحفظها ، فلا
تكاد تري في كتاب الله ذكراً لبلد بها من كل الخير و الأمان مثل مصر " اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ "
البقرة ، " ادْخُلُوا
مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ " يوسف .
ومن هذه الأزمات أزمة عام
444 هجرياً والتي أستمرت حتي عام 457 هجرياً والتي عرفت بالشدة المستنصرية عند
المؤرخين . ثلاثة عشر عام وربما أكثر من الأزمة الاقتصادية الطاحنة بمراحلها الثلاثة
كادت ان تفتك بأهل مصر جميعاً.
وإني أذكر هذه الأزمة تحديداً لعدة أسباب ، أولاً : ان الناظر للأحداث
والسلوك أثناء هذه الشدة يري انها متشابهه مع ما نعيشه من أحداث وسلوك . ثانياً :
لأن هذه الشده بمراحلها الثلاثة ، تظهر لنا من أين تأتي المشكله ومن أين يكون الحل
في كل مرحلة .
و قبل أن أبداء في سرد هذه
الشدة أريد من القارئ الكريم أن يعرف بعض الامور … أولاً: ما سأقوله بالرغم من
فظاعته ، ليس مبالغ فيه ولا هو خيال و لا من حكايات ألف ليلة و ليلة ، ما سأحكية
حدث حقيقة على ارض مصر و قد رواه المؤرخين في كتبهم منهم الأمام المقريزي في كتابه
" أغثة الامة بكشف الغمة " ابن تغري بردي في كتابه " النجوم
الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة " .. و غيرهم .
ثانياً : ان الهدف من هذه الرواية هو الاتعاظ و عدم الوقوع في نفس
الأسباب التي أدت الى هذه الشدة او الأزمة
بداية الأزمة و سببها ..
بدأت الأزمة في عام 444 هـ في ولاية الخليفة الفاطمي المستنصر بالله ،
و يحكي الأمام العالم الفقيه القاضي تقي الدين أبو العباس أحمد بن علي المقريزي ، انه في عام 444 حدثت
شدة تمثلت في أرتفاع الأسعار و قلة الأقدام علي الشراء ، و هذا كان سببه بالرجوع
الى بعض المصادر الى أنتشار أشاعة بأن النيل لم يفيض هذا العام و ان الأراضي
الزراعية عطشه ، و عندما تسمع شئ مثل هذا تعرف ان التجار سوف يخافون على مخزونهم
من الغلة ، فهم يعتقدون ان الأراضي لن تخرج الغلة الكافية هذا العام ، فبداء
التجار في تخزين الغلال و أحتكارها ، و هذا بطبيعة الحال سوف يؤدي الى ارتفاع سعر
في السوق ، و كان المؤشر الاقتصادي في هذا الوقت هو سعر الخبز .
يقول الأمام المقريزي ، وصل سعر الخبز 4 ارطال
بدرهم و ثمن ، و كان الوزير في هذا الوقت رجل يطلق عليه ابو محمد اليازوري ، و قد ضم أبو محمد اليازوري
الى نفسه منصب قاضي القضاة بالأضافة الى كونه وزير ، و ربما يرجع ذلك الى رغبته في
معرفة طبيعة الشكاوي التي تحيط بالناس و خاصة فيما يتعلق بأرتفاع الأسعار .
أنفراج الأزمة
..
يحكي المقريزي أنه ذات يوم خبز احد الخبارزين
عجينته و عرضها للبيع ، فلم يقبل الناس عليها ، فخاف الرجل على الخبز أن يبرد و لا
يجد من يشتريه فخفض السعر الى درهم للأربعة ارطال ، فمال اليه الناس حتي باع كل الخبز.
و كان في الجهه المقابلة لدكان الخباز ، دكان
لعريف الخبازين او كبير الخبازين في ذلك الوقت ، و يمكنك ان تطلق عليه أسم نقيب
الخبازين ، و الذي أشتعل غيظاً لفعل هذا الخباز ، فنادي له رجلين من الحسبه "
مفتش التموين او جهاز حماية المستهلك او الجهاز المركزي للمحاسبات " ، فغرموا
الرجل عقاباً له على فعلته بـ 10 درهم .
لم يجد الخباز المسكين بداً في ان يرفع شكواه
الي قاضي القضاة ابو محمد اليازوري ، و
الذي بدوره استدعي المحتسب و عنفه ، فأجاب المحتسب على القاضي بأن العادة جرت على
ان لكل صنعة عريف و هو مصدوق فيما يقول فالمحتسب لن يفهم في الخبز مثل عريف
الخبازين ، و أستدعي القاضي عريف الخبازين الذي لم ينكر ما حدث ، فعزله عن العرافه
و حكم للخباز بتعويض 30 قطعة ذهب .
فكاد الخباز ان تطير رأسه من الفرح ، و لما عاد
لدكانه وجد العجين قد خمر ، فباع 5 أرطال بـدرهم ، فمال عليه الناس بالشراء ، فخاف
الخبازين ان يبور خبزهم فباعوا على نفس سعره ، فخفض السعر الى 6 ارطال بـدرهم
فتبعه الخبازين ، و هكذا حتي بيع الخبز في مصر كلها 10 ارطال بدرهم .
فخرج ابو محمد اليازوري من حلقة القضاء و الخبز
في كل مصر الـ 10 ارطال بدرهم ، فذهب الى المستنصر و أخبره بالأمر و كيف ان الله
عز وجل ، قد من على الناس بقدرته و حدث ما حدث دون ان تتدخل الدولة .
كانت هذه المرحلة الاولي من الأزمة سببها أشاعة
و حلها من الله على يد خباز بسيط .
الأزمة تتجدد
مرة أخري …
و تنحل الأزمة لمدة عامين فقط ففي عام 447 تطل
الازمة الاقتصادية مرة اخري على مصر و تتمثل في قلة الغلال و ارتفاع الأسعار مره
اخري و لكن بشكل أكبر من المرة الاولي ، و كعادته ابو محمد اليازوري يحاول ان يعرف
السبب وراء نقص الغلال الى ان ظهر السبب .
و هو ان التجار يشترون الغلال من الفلاحين قبل
حصادها "و هي زرع اخضر" و بسعر يرضي الفلاح ، حتي اذا جاء وقت الحصاد
حملوا كل الغلة الى مخازنهم و لا يثبتوا في دفاتر الدولة كل الكمية التي اشترونها
.
محاولة أحتواء
الأزمة مرة أخري …
فقام الوزير ابو محمد بعمل ذكي ، فعرض على كل
التجار بأن يشتري منهم كل ما لديهم من غلال بزياده ثمن دينار عن سعره ، فأرسل
المراكب في كل مصر تحمل الغلال الى المخازن السلطانية و بدأت توزيع الغلال على
الخبازين منها ، و هكذا أستطاع ان يحل الازمة بشكل ما لمدة 20 شهراً بحسن تدبيره ،
و في الموسم التالي رفض الفلاحين بيع زرعتهم طمعاً في الـثمن دينار .
الأزمة تنفجر
بشكل يصعب أستيعابة من جديد ..
ثم قتل الوزير ابو محمد اليازوري ، فلم تري
الدولة صلاح ، و كان كلما جاء وزير لم يرضي الناس سلوكه و لم يحمدوا طريقته ، و
تكثر الوشايه به و تلفيق التهم له و كثرة القيل و القال و يوقعوا به الظن حتي يتم
عزله ، و بذلك لم يتمكن اي وزير من ان
يبقي في منصبه الفتره الكافية كي يحل المشاكل .
بل
ان المشاكل تزيد من وزير الى آخر ، فقد كان للسلطان ديوان يجمع الشكاوي و المظالم
من الناس ، فيقوم السلطان بدوره ليرفعها الى الوزير الذي ما يكاد يتولي منصبه حتي
يجد امامه الشكاوي المقدمه للوزراء قبله و ما يأتيه من ديوان السلطان .
و
بالتالي لم تحل مشكله ، فوقع الخلاف و البغضاء بين الناس و قل الحب ، فكثر الشجار
و عراك ، و امتنع الناس عن دقع الجبايات ، فقلت النفقات من بيت المال ، و عجزت
الدوله عن الوفاء بألتزامتها ، فأغلقت الدواوين ، وزادت العداوة و البغضاء بين
الناس ، فكثر قطاع الطرق فلم يأمن أحد على تجارته ، فنقصت التجارة و الرحلات
التجارية ، فأرتفعت الأسعار بشكل كبير و قلت المؤن و الغلال في السوق . كل هذا وسط
أختلاف الناس على بعضهم و ظلمهم لبعض فأنزل الله عقابه فقل النيل و ضعف الزرع فأدي
ذلك لأنتشار الوباء و قلة ما يؤكل من الطعام ، فأنصرف الناس الى البهائم حتي فنيت
فأكلوا القطط و الكلاب من الشوارع ، حتي بيع الكلب ليؤكل بـ 5 دنانير ، و أكل
الناس بعضهم بعضاً ، فكان لأصحاب البيوت حبال و كلاليب يصعدون بها فوق اسطح
منازلهم و يلقونها حتي اذا مر أحد رفعوه بالحبال و سلخوه و أكلوه .
و لعل مما يذكر من هذه الشده ، يوم ان مر
الوالي بحماره في السوق بتدافع عليه الناس حتي طرحوه عن حمارته و أكلوا الحمارة ،
فحكم على 10 منهم بالاعدام ، فأعدمهم فأنكب الناس على الجثث المعدومة يأكلوها .
اما الخليفة المستنصر بالله ، فلم ينجوا بنفسه
من هذه الشده ، فقد باع كل محتويات و شرفات قصره حتي انه كان يجلس في قصره على
حصيره ، و باع حلي مقابر أجداده .
و كان هذا في عام 475 هجرية و يقول الامام
المقريزي ان هذه الشده استمرت لسبع سنوات .
الى ان أتي الحل بشكل غريب و عجيب …
الأزمة تنفرج
بشكل عجيب …
يروي المقريزي ، أن أمرأة كانت تملك عقداً يبلغ
ثمنه 1000 دينار ، فأرادت ان تبيعه و تشتري بثمنة دقيق لتأكل ، فلم تجد أحد يشتري
منها ، حتي جائت أهل بيت صعب عليهم حالها فرقوا لها و أخذوا العقد مقابل زكيبه من
الدقيق ، فرضت المرأة بذلك ، و هي تعلم انها لو مشت في الطرق بالدقيق فلن تعود به
، فأستأجرت رجلاً يحميها الى البيت و تعطيه نصف الدقيق .
حتي اذا وصلت الى باب زويل شكرت الرجل و اعطته
حقه فبيتها أصبح قريباً ، فما ان انصرف
الرجل حتي تجمع عليها الناس فوقع الدقيق على الأرض فما خلصت منهم الا بحفنه ملئ
يدها و دخلت الى بيتها ، فعجنت حفنة الدقيق و خبذتها و صنعت منها قرصه و خرجت بها
الى قصر المستنصر .
و وقفت الى ارض مرتفعه بجوار القصر و رفعت
القرصه و قالت : يا أهل القاهرة أدعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد الله الناس
بأيامه و أعاد عليهم بركات حسن نظره حتي تقومت على هذه القرصه بألف دينار.
فسمع المستنصر مقولة المرأة فشق عليه كلامها و
اشتعل غضباً ، فأستدعلى الوالي و قال له : لإن لم ينفك السعر و يخبز الخبز في
السوق او أقطعن رقبتك و أنتهب مالك .
فخرج الوالي من عند السلطان ، فأخرج من الحبس
قوماً محكوم عليهم بالاعدام ، و البسهم
ثياباً و اسعة و عبائات و عمائم و قال لحراسه اذا اشرت عليكم و انا عندي ضيوفي
فأدخلوا على هؤلاء واحد واحد
و دعي الوالي التجار و الخبازين و الطحانين
لمجلس عظيم ، و أشار الى حراسه فدخل احد المسجونين في هيئة عظيمة حتي اذا مثل بين
يديه قال الوالى : " ويلك أما كفاك أنك خنت السلطان و أستوليت على مال
الديوان الى ان خربت الاعمال و محقت الغلال فأدي ذلك الى اختلال الدولة و هلاك
الرعية …. اضربوا رقبته " ، فقطع
الرحاس رقبته امام الجلوس.
ثم
أمر بدخول الأخر حتي اذا مثل بين يديه قال : " كيف تجرأت على مخالفة أمر عدم احتكار
الغلة و تماديت في أحتكارها الى ان تشبه بك من سواك فهلك الناس … اضربوا رقبته "
… فقطع الحراس رقبته امام الجلوس . و استدعي الثالث فقام اليه الحاضرون من
الطحانين و التجار و الخبازين و قالوا : " أيها الامير ، كفي ما جري ، نحن
نخرج الغلة و ندير الطحين و نعمر الأسواق بالخبز و نرخص الاسعار على الناس ، و
نبيع الخبز الرطل بدرهم ، فقال : وا يقنع الناس منكم بهذا … فقالوا : رطلين بدرهم
" .
فرضي
منهم ذلك بعد ان تضرعوا اليه ، و أمتلئ السوق في اليوم التالي بالخبز و انفك السعر
، و ما كان من اسبوع حتي أجري الله النيل و سكنت الفتن و زرع الناس و تلاحق الخير
و انفرجت الشده .
لمحة أخيرة …
تأمل معي في كل مره مماذا يكون السبب في الأزمة
و من هو الذي يصنعها ، و من في كل مرة يحل الأزمة و يمر بالامة الى بر الآمان .
لا يخدعك فكرك و تظن ان من يحل الأزمة الوزير
او التجار ، ان من يحل الأزمة هو تقوي الوزير و التجار و خوفهم ، فمن يتقي الله في
الناس و يرحمهم يجعل الله له مخرجاً ، و لو ان الناس اتقوا الله في انفسهم لكان
لهم من كل ضيق مخرجاً ، و لكننا نستعجل .
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا
لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ
بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
تامر حامد
19-2-2013
0 Comments
It is important for me to know your opinion in this contact.
please feel free to contact me, If you have any questions about this article or any further questions.